الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول (نسخة منقحة)
.مَوَاقِفُهُ الْعَظِيمَةُ: وَأَمَّا مَا مَنَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمَوَاقِفِ الْعَظِيمَةِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حِينِ بِعْثَتِهِ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ نُصْرَتِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ وَمُلَازَمَتِهِ إِيَّاهُ وَمُوَاسَاتِهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَتَقَدُّمِهِ مَعَهُ فِي كُلِّ خَيْرٍ، فَأَمْرٌ لَا تُدْرَكُ غَايَتُهُ، ثُمَّ لَمَّا تَوَفَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ وَلَّاهُ أَمْرَهُمْ بَعْدَ نَبِيِّهِ، وَجَمَعَهُمْ عَلَيْهِ بِلُطْفِهِ، فَجَمَعَ اللَّهُ بِهِ شَمْلَ الْعَرَبِ بَعْدَ شَتَاتِهِ، وَقَمَعَ بِهِ كُلَّ عَدُوٍّ لِلدِّينِ وَدَمَّرَ عَلَيْهِ وَأَلَّفَ لَهُ الْأُمَّةَ وَرَدَّهُمْ إِلَيْهِ، بَعْدَ أَنِ ارْتَدَّ أَكْثَرُهُمْ عَنْ دِينِهِ وَانْقَلَبَ الْغَالِبُ مِنْهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ كَافِرِينَ. حَتَّى قِيلَ: لَمْ يَبْقَ يُصَلَّى إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَمَسْجِدِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ بِالْبَحْرَيْنِ، فَرَدَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْحَقِّ طَوْعًا وَكَرْهًا وَأَطْفَأَ بِهِ كُلَّ فِتْنَةٍ فِي أَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [الْمَائِدَةِ: 54]، الْآيَاتِ.قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ: هُمْ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ قَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ.وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قُبِضَ ارْتَدَّ عَامَّةُ الْعَرَبِ، إِلَّا أَهْلَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَحْرِينِ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَمَنَعَ بَعْضُهُمُ الزَّكَاةَ. وَهَمَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقِتَالِهِمْ؛ فَكَرِهَ ذَلِكَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَوَاللَّهِ لَأَقْتُلُنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا.قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَرِهَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَقَالُوا: أَهْلُ الْقِبْلَةِ. فَتَقَلَّدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَيْفَهُ، وَخَرَجَ وَحْدَهُ. فَلَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنَ الْخُرُوجِ فِي أَثَرِهِ.قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ أَبَا حَصِينٍ يَقُولُ: مَا وُلِدَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ مَوْلُودٌ أَفْضَلُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَقَدْ قَامَ مَقَامَ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ.وَكَانَ قَدِ ارْتَدَّ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثُ فِرَقٍ: مِنْهُمْ بَنُو مَذْحِجٍ وَرَئِيسُهُمْ ذُو الْخِمَارِ عَبْهَلَةُ بْنُ كَعْبٍ الْعَنْسِيُّ وَيُلَقَّبُ بِالْأَسْوَدِ، وَكَانَ كَاهِنًا مُشَعْبِذًا فَتَنَبَّأَ بِالْيَمَنِ وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِهِ، فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحُثُّوا النَّاسَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِدِينِهِمْ وَعَلَى النُّهُوضِ لِحَرْبِ الْأَسْوَدِ، فَقَتَلَهُ فَيْرُوزٌ الدَّيْلَمِيُّ عَلَى فِرَاشِهِ.قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَأَتَى الْخَبَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّمَاءِ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا، فَقَالَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُتِلَ الْأَسْوَدُ الْبَارِحَةَ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مُبَارَكٌ» قِيلَ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: «فَيْرُوزٌ، فَازَ فَيْرُوزٌ»، فَبَشَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِهَلَاكِ الْأَسْوَدِ، وَقُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَدِ وَأَتَى خَبَرُ مَقْتَلِ الْعَنْسِيِّ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَعْدَ مَا خَرَجَ أُسَامَةُ وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ فَتْحٍ جَاءَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.وَالْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ بَنُو حَنِيفَةَ وَرَئِيسُهُمْ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، وَكَانَ قَدْ تَنَبَّأَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ سَنَةِ عَشْرٍ وَزَعَمَ أَنَّهُ اشْتَرَكَ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النُّبُوَّةِ، وَكَتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ، إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْأَرْضَ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لَكَ) وَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا» ثُمَّ أَجَابَ «مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».وَمَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُوُفِّيَ، فَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ حَتَّى أَهْلَكَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْ وَحْشِيٍّ غُلَامِ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ الَّذِي قَتَلَ حَمْزَةَ بْنَ عَبَدَ الْمُطَّلِبِ بَعْدَ حَرْبٍ شَدِيدَةٍ، وَكَانَ وَحْشِيُّ يَقُولُ: قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَشَرَّ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ.وَالْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ بَنُو أَسَدٍ وَرَأْسُهُمْ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَكَانَ طُلَيْحَةُ آخِرَ مَنِ ارْتَدَّ وَادَّعَى النُّبُوَّةَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوَّلَ مَنْ قُوتِلَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ، فَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَهَزَمَهُمْ خَالِدٌ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ، وَأَفْلَتَ طُلَيْحَةُ فَمَرَّ عَلَى وَجْهِهِ هَارِبًا نَحْوَ الشَّامِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.وَارْتَدَّ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ حَتَّى كَفَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ، وَنَصَرَ دِينَهُ عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتَدَتِ الْعَرَبُ وَاشْرَأَبَّ النِّفَاقُ، وَنَزَلَ بِأَبِي ما لو نَزَلْ بِحَبَّارٍ لَهَاضَهَا. انْتَهَى مِنْ تَفْسِيرِ الْبَغَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، قال الحسن: هُوَ وَاللَّهِ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ.وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ قَتَادَةَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 54]، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَرْتَدُّ مُرْتَدُّونَ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّ عَامَّةُ الْعَرَبِ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَّا ثَلَاثَةَ مَسَاجِدَ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مكة وأهل جواثى مَنْ عَبْدِ الْقَيْسِ.وَقَالَ الَّذِينَ ارْتَدَوْا: نُصَلِّي الصَّلَاةَ وَلَا نُزَكِّي، وَاللَّهِ لَا تُغْصَبُ أَمْوَالُنَا. فَكُلِّمَ أَبُو بَكْرٍ فِي ذَلِكَ لِيَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَوْ قَدْ فَقِهُوا أَدَّوُا الزَّكَاةَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أُفَرِقُ بَيْنَ شَيْءٍ جَمَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَصَائِبَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَقَاتَلُوا حَتَّى أَقَرُّوا بِالْمَاعُونِ وَهُوَ الزَّكَاةُ.قَالَ قَتَادَةُ: فَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَأَصْحَابِهِ {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [الْمَائِدَةِ: 54]، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ كَمَا أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [الْمَائِدَةِ: 54]، الْآيَةَ، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا وَقَوْمِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لَا بَلْ هَذَا وَقَوْمُهُ» يَعْنِي أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ.وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عِيَاضٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [الْمَائِدَةِ: 54]. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «هُمْ قَوْمُ هَذَا» وَأَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ فِي جَمْعِهِ لِحَدِيثِ شُعْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: تُلِيَتْ عَلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} [الْمَائِدَةِ: 54]. الْآيَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَوْمُكَ يَا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ؛ أَهْلُ الْيَمَنِ».وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْكُنَى وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} [الْمَائِدَةِ: 54]، الْآيَةَ. فَقَالَ: «هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ثُمَّ كِنْدَةَ ثُمَّ السَّكُونِ ثُمَّ تُجِيبَ».وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ثُمَّ مِنْ كِنْدَةَ ثُمَّ مِنَ السَّكُونِ.وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقَادِسِيَّةِ.قُلْتُ. وَكَانَ غَالِبُ أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، بَلْ كَانَتْ بَجِيلَةُ رُبُعَ النَّاسِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ بَأْسُ النَّاسِ الَّذِي هُمْ فِيهِ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: وَكَانَ يَمُرُّ عمرو بن معديكرب الزُّبَيْدِيُّ فَيَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ كُونُوا أُسُودًا، فَإِنَّمَا الْفَارِسِيُّ تَيْسٌ. وَقَدْ قَتَلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْوَارًا فَارِسَ الْفُرْسِ وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا، وَكَانَتْ لَهُ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ يَوْمَئِذٍ.وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَأْرِيخِهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ يَنْخُسْرَةَ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ عُمَيْرٍ فَرَحَّبَ بِي ثُمَّ تَلَا {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [الْمَائِدَةِ: 54]، الْآيَةَ. ثُمَّ ضَرَبَ عَلَى مَنْكِبِي وَقَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَمِنْكُمْ أَهْلَ الْيَمَنِ. ثَلَاثًا.وَكُلُّ هَذَا لَا يُنَافِي مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ نُزُولِهَا فِي أَبِي بَكْرٍ أَوَّلًا، فَإِنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ لَمْ يَرْتَدْ جَمِيعُ قَبَائِلِهِمْ يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّمَا ارْتَدَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَعَ الْأَسْوَدِ وَثَبَتَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ مَعَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي مُوسَى وَفَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُمَّالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَشَبَ بَيْنَ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ قِتَالٌ عَظِيمٌ حَتَّى قَتَلَ اللَّهُ الْأَسْوَدَ عَلَى يَدِ فَيْرُوزَ، وَأَيَّدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ عَلَى عَدْوِهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ، وَلَكِنْ لَمْ يَرْجِعْ أَمْرُهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَنْسِيِّ إِلَّا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُتَابِعُ الْكَتَائِبَ مَدَدًا لِمُؤْمِنِهِمْ عَلَى كَافِرِهِمْ حَتَّى رَاجَعُوا الْإِسْلَامَ وَكَانُوا مِنْ أَعْظَمِ أَنْصَارِهِ حَتَّى صَارَ رُؤَسَاءُ رِدَّتِهِمْ كعمرو بن معديكرب وَقَيْسِ بْنِ مَكْشُوحٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وَأَشَدِّهِمْ بَلَاءً فِي أَيَّامِ الرِّدَّةِ وَالْفُتُوحِ، فَحِينَئِذٍ عَادَ الْمَعْنَى إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَأَصْحَابِهِ وَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكُلُّ هَذَا فِي شَأْنِ السَّبَبِ لِنُزُولِ الْآيَةِ، وَإِلَّا فَهِيَ عَامَّةٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ يُحِبُّ اللَّهَ وَيُحِبُّهُ وَيُوَالِي فِيهِ وَيُعَادِي فِيهِ وَلَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ أَسْعَدَ النَّاسِ بِذَلِكَ وَأَقْدَمَهُمْ فِيهِ وَأَسْبَقَهُمْ إِلَيْهِ وَأَوَّلَ مَنْ تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ وَعَنْ أَنْصَارِ الْإِسْلَامِ وَحِزْبِهِ أَجْمَعِينَ.وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ». فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.وَتَفَاصِيلُ مَوَاقِفِهِ الْعِظَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَشْهُورَةٌ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ عَشِيَّةً، وَقِيلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَدُفِنَ مِنْ لَيْلَتِهِ وَذَلِكَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ بَعْدَ مَرَضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ، وَفِي أَثْنَاءِ هَذَا الْمَرَضِ عَهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَ الَّذِي كَتَبَ الْعَهْدَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَقُرِئَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَقَرُّوا بِهِ وَسَمِعُوا لَهُ وَأَطَاعُوا، وَكَانَ عُمْرُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ تُوُفِّيَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً السِّنُّ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي التُّرْبَةِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَيَاةِ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَمِنْ جَمِيعِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ دَعَاهُ، وَقَدْ فَعَلَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
|